فصل: قال في البحر المديد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب}.
قال ابن عرفة: الغيب ما لم يَنصبّ عليه دليل فَمِنَ الناس من أجاز النظر في علم النجوم وعلم الهيئة والكسوفات.
وقال أبو العز المقترح في عقيدته: أجمعوا على أن النظر في علم الهيئة محرم.
قال ابن عرفة: إنما ذلك إذا نظر فيه للحكم، أما إذا نظره ليعلم الكواكب والنجوم فجائز، لكن الاشتغال بالعبادة وتعلّم ما ينفعه أولى.
قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.
قال القرطبي: الآية حجة على المعتزلة ويلزمهم الكفر في قولهم: إنّ لفظ الرزق لا يطلق إلا على الحلال لأن من تغذى من صغره إلى كبره بالحرام يلزمهم أن لا يدخل في عموم قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا}.
قال ابن عرفة: يكون عاما مخصوصا إن سمّاه رزقا مجازا أو من باب التغليب باعتبار الأكثر فإنّ الأكثر حلال.
وقال غيره: هذا الخلاف لفظي لا يبنى عليه كفر أو إيمان. اهـ.

.من فوائد الشوكاني في الآية:

قال رحمه الله:
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}.
هو وصف للمتقين كاشف.
والإيمان في اللغة: التصديق، وفي الشرع ما سيأتي.
والغيب في كلام العرب: كل ما غاب عنك.
قال القرطبي: واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية هو الله سبحانه، وضعفه ابن العربي.
وقال آخرون: القضاء والقدر.
وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب.
وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة، وعذاب القبر، والحشر والنشر، والصراط، والميزان، والجنة، والنار.
قال ابن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها، قال: وهذا هو: الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره، وشرّه، قال: صدقت» انتهى.
وهذا الحديث هو ثابت في الصحيح بلفظ: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره، وشرّه».
وقد أخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن منده، وأبو نعيم، كلاهما في معرفة الصحابة عن تويلة بنت أسلم قالت: صليت الظهر، أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيليا، فصلينا سجدتين، ثم جاءنا من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت، فتحوّل الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أولئك قوم آمنوا بالغيب».
وأخرج البزار، وأبو يعلى، والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب، قال: كنت جالسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيمانًا؟» فقالوا: يا رسول الله الملائكة، قال: «هم كذلك، ويحق لهم، وما يمنعهم، وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها» قالوا: يا رسول الله الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالته، والنبوّة، قال: «هم كذلك، ويحق لهم، وما يمنعهم، وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها»؛ قالوا: يا رسول الله الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء، قال: «هم كذلك، وما يمنعهم، وقد أكرمهم الله بالشهادة»؛ قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: «أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي يؤمنون بي، ولم يروني، ويصدقوني ولم يروني، يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانًا» وفي إسناده محمد بن أبي حميد، وفيه ضعف.
وأخرج الحسن بن عرفة في حزبه المشهور، والبيهقي في الدلائل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو الحديث الأول، وفي إسناده المغيرة بن قيس البصري، وهو منكر الحديث.
وأخرج نحوه الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا، والإسماعيلي عن أبي هريرة مرفوعًا أيضًا، والبزار عن أنس مرفوعًا.
وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ليتني قد لقيت إخواني، قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال: بلى، ولكن قوم يجيئون من بعدكم يؤمنون بي إيمانكم ويصدقوني تصديقكم وينصروني نصركم، فيا ليتني قد لقيت إخواني» وأخرج نحوه ابن عساكر في الأربعين السباعية من حديث أنس، وفي إسناده أبو هدبة، وهو كذاب، وزاد فيه: ثم قرأ النبي {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة} [البقرة: 3] الآية.
وأخرج أحمد، والدارمي، والبارودي، وابن قانع معًا في معجم الصحابة، والبخاري في تاريخه، والطبراني، والحاكم عن أبي جمعة الأنصاري قال: قلت: يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجرًا آمنا بك، واتبعناك؟ قال: «ما يمنعكم من ذلك، ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء؟ بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب الله بين لوحين فيؤمنون بي، ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجرًا».
وأخرج أحمد، وابن أبي شيبة، والحاكم، عن أبي عبد الرحمن الجهني قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع راكبان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنديان أو مَذْحجيان حتى أتيا، فإذا رجلان من مذحج، فدنا أحدهما ليبايعه، فلما أخذ بيده قال: يا رسول الله أرأيت من جاءك فآمن بك، واتبعك، وصدّقك فماذا له؟ قال: طوبى له فمسح على زنده، وانصرف، ثم جاء الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه فقال: يا رسول الله أرأيت من آمن بك، وصدّقك، واتبعك، ولم يرك؟ قال: طوبى له ثم طوبى له، ثم مسح على زنده، وانصرف» وأخرج الطيالسي، وأحمد، والبخاري في تاريخه، والطبراني، والحاكم عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن رآني، وآمن بي، وطوبى لمن آمن بي، ولم يرني سبع مرات» وأخرج أحمد، وابن حبان، عن أبي سعيد: أن رجلًا قال: يا رسول الله طوبى لمن رآك، وآمن بك؟ قال: «طوبى لمن رآني، وآمن بي، وطوبى، ثم طوبى، ثم طوبى لمن آمن بي، ولم يرني» وأخرج الطيالسي، وعبد بن حميد، عن ابن عمر نحوه.
وأخرج أحمد، وأبو يعلى، والطبراني من حديث أنس نحو حديث أبي أمامة الباهلي المتقدّم.
وأخرج سفيان بن عيينة، وسعيد بن منصور، وأحمد بن منيع في مسنده، وابن أبي حاتم، وابن الانباري، والحاكم وصححه عن ابن مسعود، أنه قال: والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: {الم ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} إلى قوله: {المفلحون} [البقرة: 1 5] وللتابعين أقوال، والراجح ما تقدم من أن الإيمان الشرعي يصدق على جميع ما ذكر هنا، قال ابن جرير: والأولى أن تكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولًا، واعتقادًا، وعملًا.
قال: وتدل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو: تصديق القول بالعمل والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله، وكتبه، ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل.
وقال ابن كثير: إن الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادًا، وقولًا، وعملًا، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبو عبيد، وغير واحد إجماعًا أن الإيمان قول، وعمل، ويزيد وينقص.
وقد ورد فيه آيات كثيرة. اهـ.

.قال في البحر المديد:

{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}.
هذه الأوصاف تتضمن ثلاثة أعمال:
الأول: عمل قلبي وهو الإيمان.
والثاني: عمل بدني، وهو الصلاة.
والثالث: عمل مالي، وهو الإنفاق في سبيل الله، وهذه الأعمال هي أساس التقوى التي تدور عليها.
أما العمل القلبي: فهو الإيمان أولًا، والمعرفة ثانيًا، فما دام العبد محجوبًا بشهود نفسه، محصورًا في الأكوان وفي هيكل ذاته فهو مؤمن بالغيب، يؤمن بوجود الحق تعالى، وبما أخبر به من أمور الغيب، يستدل بوجود أثره عليه، فإذا فني عن نفسه وتلطفت دائرة حسه، وخرجت فكرته عن دائرة الأكوان، أفضى إلى الشهود والعيان، فصار الغيب عنده شهادة، والملك ملكوتًا، والمستقبل حالًا، والآتي واقعًا، وقد قلت ذلك:
فَلا تَرْضى بغَيْرِ الله حِبًّا ** وكُنْ أبدًا بعِشْقٍ واشْتِيَاقِ

تَرَى الأمْرَ الْمُغَيَّبَ ذا عيَانٍ ** تَحْظَى بالوصُولِ وبالتَّلاَقِي

وفي الحكم: لو أشرق نور اليقين في قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها، ولرأيت بهجة الدنيا وكسوة الفناء ظاهرة عليها وقال في التنوير: ولو انْهَتَكَ حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولأشرق نور الإيقان فغطّى وجود الأكوان. اهـ.
وإنما اقتصر الحق تعالى على الإيمان بالغيب لأنه هو المكلف به؛ إذ هو الذي يطيقه جلّ العباد، بخلاف المعرفة الخاصة فلا يطيقها إلا الخصوص، والله تعالى أعلم.
وأما العمل البدني: فهو إقامة الصلاة، والمراد بإقامتها إتقان شروطها وأركانها وخشوعها، وحفظ السر فيها، قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: كل موضع ذكر فيه المصلّون في معرض المدح فإنما جاء لمن أقام الصلاة، إما بلفظ الإقامة، وإما بمعنى يرجع إليها، قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقيمُونَ الصَّلاَةَ} وقال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ} [الإسرَاء: 78]، {وَالْمُقِيمِى الصَّلاَةِ} [الحَجّ: 35]، ولما ذكر المصلّين بالغفلة قال: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4، 5] ولم يقل: فويل للمقيمين الصلاة.
وأما العمل المالي فهو الإنفاق في سبيل الله واجبًا أو مندوبًا، وهو من أفضل القربات، يقول الله- تبارك وتعالى: «يا ابنَ آدم أنفِقْ، أنفقْ عليك»، وفي حديث آخر: «أنفِقْ ولا تخَفْ مِنْ ذي العرشِ إقْلالًا» وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ فِي الجنَةِ غُرفًا يُرى ظَاهِرُهَا مِنْ باطنها وباطِنَها مِنْ ظَاهِرهَا»، قيل: لِمَنْ هِي يا رسولَ الله؟ قال: «لِمَنْ أطْعَمَ الطعَامَ، وأفْشَى، السلام، وصَلى باللَّيْلِ والناسُ نِيام» وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: «إن الله- عزّ وجلّ- ليُدْخلُ باللقمةِ مِن الخبز والقبضةِ مِن التمْر ومثله ممَّا ينتفع به المسكين ثلاثةً، الجنةَ: رَب البيتِ الآمرَ به، والزوجة تصلحه، والخادمَ الذي يناولهُ المسْكِين» وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: «إنّ الصدقةَ لتسُدُّ سَبعينَ بابًا من السّوء».
وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: «صنائِع المعْرُوف تقي مَصارعَ السُّوءِ، وصدقةُ السِّر تُطفِئ غَضَبَ الربِّ، وصِلةُ الرَّحِم تزيدُ في العمرِ». اهـ.

.قال في روح البيان:

قال في التأويلات النجمية: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أي: بنور غيبي من الله في قلوبهم نظروا في قول محمد صلى الله عليه وسلّم فشاهدوا صدق قوله: {فآمنوا به} كما قال عليه السلام: «المؤمن ينظر بنور الله».
واعلم أن الغيب غيبان: غيب غاب عنك، وغيب غبت عنه، فالذي غاب عنك عالم الأرواح فإنه قد كان حاضرًا حين كنت فيه بالروح وكذرة وجودك في عهد ألست بربكم واستماع خطاب الحق ومطالعة آثار الربوبية وشهود الملائكة وتعارف الأرواح من الأنبياء والأولياء وغيرهم فغاب عنك إذ تعلقت بالقالب ونظرت بالحواس الخمس أي: بالمحسوسات من عالم الأجسام وأما الغيب الذي غبت عنه فغيب الغيب وهو حضرة الربوبية قد غبت عنه بالوجود وما غاب عنك بالوجود وهو معكم أينما كنتم أنت بعيد منه وهو قريب منك كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} انتهى كلام الشيخ نجم الدين قدس سره.
{وَيُقِيمُونَ الصَّلَوةَ} الصلاة اسم للدعاء كما في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] أي: ادع لهم والثناء كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائكَتَه يُصَلُّونَ} [الأحزاب: 56] والقراءة كما في قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} [الإسراء: 110] أي: بقراءتك والرحمة كما في قوله تعالى: {أُوالَائِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 157] والصلاة المشروعة المخصوصة بأفعال وأذكار سميت بها لما في قيامها من القراءة وفي قعودها من الثناء والدعاء ولفاعلها من الرحمة.
والصلاة في هذه الآية اسم جنس أريد بها الصلوات الخمس، وإقامتها عبارة عن المواظبة عليها من قامت السوق إذ نفقت أو عن التشمر لأدائها من غير فتور ولا توان من قولهم: قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد وضده قعد عن الأمر وتقاعد أو عن أدائها فإن قول المؤذن قد قامت الصلاة معناه أخذوا في أدائها عبر عن أدائها بالإقامة لاشتمالها على القيام كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح أو عن تعديل أركانها وحفظها من أن يقع في شيء من فرائضها وسننها وأدائها زيغ من أقام العود إذا قومه وعدله وهو الأظهر لأنه أشهر وإلى الحقيقة أقرب وأفيَد لتضمنه التنبيه على أن الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال بقلبه على الله تعالى لا المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون.
قال إبراهيم النخعي: إذا رأيت رجلًا يخفف الركوع والسجود فترحم على عياله يعني: من ضيق المعيشة.
وذكر أن حاتمًا الزاهد دخل على عاصم بن يوسف فقال له عاصم: يا حاتم هل تحسن أن تصلي؟ فقال: نعم قال: كيف تصلي؟ قال: إذا تقارب وقت الصلاة أسبغ الوضوء ثم أستوي في الموضع الذي أصلي فيه حتى يستقر كل عضو مني وأرى الكعبة بين حاجبي والمقام بحيال صدري والله فوقي يعلم ما في قلبي وكأن قدمي على الصراط والجنة عن يميني والنار عن شمالي وملك الموت خلفي وأظن أنها آخر الصلاة ثم أكبر تكبيرًا بإحسان وأقرأ قراءة بتفكر وأركع ركوعًا بالتواضع وأسجد سجودًا بالتضرع ثم أجلس على التمام وأتشهد على الرجاء وأسلم على السنة ثم أسلمها للإخلاص وأقوم بين الخوف والرجاء ثم أتعاهد على الصبر قال عاصم: يا حاتم أهكذا صلاتك؟ قال: كذا صلاتي منذ ثلاثين سنة فبكى عاصم وقال: ما صليت من صلاتي مثل هذا قط. كذا في تنبيه الغافلين.
قال في تفسير التيسير المذكور في الآية إقامة الصلاة والله تعالى أمر في الصلاة بأشياء بإقامتها بقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ} [الروم: 31] وبالمحافظة عليها وإدامتها بقوله: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائمُونَ} [المعارج: 23] وبأدائها في أوقاتها بقوله: {كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103] وبأدائها في جماعة بقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] وبالخشوع فيها بقوله: {الَّذِينَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] وبعد هذه الأوامر صارت الناس على طبقات: طبقة لم يقبلوها ورأسهم أبو جهل لعنه الله قال الله تعالى في حقه: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة: 31] وذكر مصيرهم فقال: {مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 42- 43] إلى قوله: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 46] وطبقة قبلوها ولم يؤدوها أهل الكتاب قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم: 59] وهم أهل الكتاب {فَخَلَفَ مِن} [مريم: 59] وذكر مصيرهم فقال: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] وهي دركة في جهنم هي أهيب موضع فيها تستغيث الناس منها كل يوم كذا وكذا مرة ثم قال الله: {إِلا مَن تَابَ} [مريم: 60] أي: من اليهودية والنصرانية {وَءَامَنَ} [مريم: 60] أي: بمحمد {وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم: 60] أي: حافظ على الصلاة، وطبقة أدوا بعضًا ولم يؤدا بعضًا متكاسلين وهم المنافقون قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَوةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142] وذكر أن مصيرهم ويل وهو وادٍ في جهنم لو جعلت فيه جبال الدنيا لماعت أي: سألت قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من ترك صلاة حتى مضى وقتها عذب في النار حقبًا» والحقب ثمانون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا كل يوم ألف سنة مما تعدون.
قالوا وتأخير الصلاة عن وقتها كبيرة وأصغر الكبيرة ما قيل إنه يكون كأنه زنا بأمه سبعين مرة كما في روضة العلماء.
وطبقة قبلوها وهم يراعونها في مواقيتها بشرائطها ورأسهم المصطفى صلى الله عليه وسلّم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ} [المزمل: 20] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] الآية وأصحابه كذلك فذكرهم الله تعالى بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1- 2] وذكر مصيرهم فقال: {أولئك هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 10- 11] وهو أرفع موضع في الجنة وأبهاه ينال المؤمن فيه مناه وينظر إلى مولاه.
قال الحكماء: كن نجمًا فإن لم تستطع فكن قمرًا فإن لم تستطع فكن شمسًا أي: مصليًا جميع الليل كالنجم يشرق جميع الليل أو كالقمر يضيء بعض الليل أو كالشمس تضيء بالنهار معناه: فصلِّ بالنهار إن لم تستطع بالليل كذا في زهرة الرياض.
واعلم أن الجماعة من فروض الكفاية وفيها فضل وليست بفرض عند عامة العلماء حتى إذا صلى وحده جاز وإن فاته فضل الجماعة.
وقال أحمد بن حنبل: إن الجماعة فرض وليست بنافلة حتى إذا صلى وحده لم تجز صلاته غير أنها وإن لم تكن فريضة عندنا فالواجب على المسلم أن يتعاهدها ويحفظها قال تعالى: {يا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31] قال بعضهم المراد من الداعي المؤذنون الذين يدعون إلى الجماعة في الصلوات الخمس وتارك الجماعة شر من شارب الخمر وقاتل النفس بغير حق ومن القتات ومن العاق لوالديه ومن الكاهن والساحر ومن المغتاب وهو ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وهو ملعون على لسان الملائكة لا يعاد إذا مرض ولا تشهد جنازته إذا مات قال النبي عليه الصلاة والسلام: «تارك الجماعة ليس مني ولا أنا منه ولا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا» أي: نافلة وفريضة فإن ماتوا على حالهم فالنار أولى بهم كذا في روضة العلماء.
وقال في نصاب الاحتساب قال عليه السلام: «لقد هممت أن آمر رجلًا يصلي بالناس وانظر إلى أقوام يتخلفون عن الجماعة فأحرق بيوتهم» وهذا يدل على جواز إحراق بيت الذي يتخلف عن الجماعة لأن الهمَّ بالمعصية لا يجوز من الرسول عليه السلام لأنه معصية فإذا علم جواز إحراق البيت على ترك السنة المؤكدة فما ظنك في إحراق البيت على ترك الواجب والفرض وما ظنك في إحراق آلات المعصية انتهى كلام النصاب هذا.
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- بعث الله نبيه عليه السلام بشهادة أن لا إله إلا الله فلما صدق زاد الصلاة فلما صدق زاد الزكاة فلما صدق زاد الصيام فلما صدق زاد الحج ثم الجهاد ثم أكمل لهم الدين.
قال مقاتل: كان النبي عليه السلام يصلي بمكة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشاء فلما عرج به إلى السماء أمر بالصلوات الخمس كما في روضة الأخيار، وإنما فرضت الصلاة ليلة المعراج لأن المعراج أفضل الأوقات وأشرف الحالات وأعز المناجات والصلاة بعدا لإيمان أفضل الطاعات وفي التعبد أحسن الهيئات ففرض أفضل العبادات في أفضل الأوقات وهو وصول العبد إلى ربه وقربه منه.
وأما الحكمة في فرضيتها فلأنه صلى الله عليه وسلّم لما أسرى به شاهد ملكوت السموات بأسرها وعبادات سكانها من الملائكة فاستكثرها عليه السلام غبطة وطلب ذلك لأمته فجمع الله له في الصلوات الخمس عبادات الملائكة كلها لأن منهم من هو قائم ومنهم من هو راكع ومنهم من هو ساجد وحامد ومسبح إلى غير ذلك فأعطى الله تعالى أجور عبادات أهل السموات لأمته إذا قاموا الصلوات الخمس.
وأما الحكمة في أن جعلها الله تعالى مثنى وثلاث ورباع فلأنه عليه السلام شاهد هياكل الملائكة تلك الليلة أي: ليلة الإسراء أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع فجمع الله ذلك في صور أنوار الصلوات عند عروج ملائكة الأعمال بأرواح العبادات لأن كل عبادة تتمثل في الهياكل النورانية وصورها كما وردت الإشارات في ذلك بل يخلق الملائكة من الأعمال الصالحة كما ورد في الأحاديث الصحيحة وكذلك جعل الله أجنحة الملائكة على ثلاث مراتب فجعل أجنحتك التي تطير بها إلى الله موافقة لأجنحتهم ليستغفروا لك.
وأما الحكمة في كونها خمس صلوات فلأنه عليه السلام بعد سؤاله التخفيف ومراجعته قال له الله تعالى: «يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر حسنات فتلك خمسون صلاة وكانت خمسين على من قبلنا» فحطت ليلة المعراج إلى خمس تخفيفًا وثبت جزاء الخمسين تضعيفًا.
وحكمة أخرى في كونها خمس صلوات أنها كانت متفرقة في الأمم السالفة فجمعها سبحانه لنبيه وأمته لأنه عليه السلام مجمع الفضائل كلها دنيا وآخرة وأمته بين الأمم كذلك فأول من صلى الفجر آدم والظهر إبراهيم والعصر يونس والمغرب عيسى والعشاء موسى عليهم السلام فهذا سر القرار على خمس صلوات وقيل صلى آدم عليه السلام الصلوات الخمس كلها ثم تفرقت بعده بين الأنبياء عليهم السلام وأول من صلى الوتر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة المعراج لذلك قال: «زادني ربي صلاة» أي: الوتر على الخمس أو صلاة الليل فافهم.
وأول من بادر إلى السجود جبريل عليه السلام ولذلك صار رفيق الأنبياء وخادمهم وأول من قال: سبحان الله جبريل والحمدآدم ولا إله إلا الله نوح والله أكبر إبراهيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كل ذلك في كشف الكنوز وحل الرموز.
وذكر في الحكم الشاذلية وشرحها: إنه لما علم الحق منه وجود الملل لون لك الطاعات لتستريح من نوع إلى نوع وعلم ما فيك من وجود الشره المؤدي إلى الملل القاطع عن بلوغ الأمل فحجرها عليك في الأوقات إذ جعل في اليوم خمسًا وفي السنة شهرًا وفي المائتين خمسة وفي العمر زورة ولكل واحدة في تفاصيلها وقت لا تصح في غيره كل ذلك رحمة بك وتيسيرًا للعبودية عليك وقد قيد الله الطاعات بأعيان الأوقات كيلا ينفك عنها وجود التسويف ووسع الوقت عليك كي تبقى صفة الاختيار.
وفي التأويلات النجمية بداية الصلاة إقامة ثم إدامة فإقامتها بالمحافظة عليها بمواقيتها وإتمام ركوعها وسجودها وحدودها ظاهرًا وباطنًا وإدامتها بدوام المراقبة وجمع الهمة في التعرض لنفحات ألطاف الربوبية التي هي مودعة فيها لقوله عليه السلام: «إن في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها» فصورة الصلاة صورة التعرض والآمر بها صورة جذبة الحق بأن يجذب صورتك عن الاستعمال لغير العبودية وسر الصلاة حقيقة التعرض ففي كل شرط من شرائط صورتها وركن من أركانها وسنة من سننها وأدب من آدابها وهيئة من هيئاتها سرّيشير إلى حقيقة التعرض لها، ومن شرائط الصلاة الوضوء ففي كل أدب وسنة وفرض منه سرّيشير إلى طهارة يستعد بها لإقامة الصلاة ففي غسل اليدين إشارة إلى تطهير نفسك عن تلوث المعاصي وتطهير قلبك عن تلطخ الصفات الذميمة الحيوانية والسبعية والشيطانية كما قال تعالى لحبيبه عليه السلام: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] جاء في التفسير أي: قلبك فطهر وغسل الوجه إشارة إلى طهارة وجه همتك من دنس ظلمة حب الدنيا فإنه رأس كل خطيئة.
ومن شرائط الصلاة استقبال القبلة وفيه إشارة إلى الإعراض عما سوى طلب الحق والتوجه إلى حضرة الربوبية لطلب القربة والمناجاة ورفع اليدين إشارة إلى رفع يد الهمة عن الدنيا والآخرة والتكبير تعظيم الحق بأنه أعظم من كل شيء في قلب العبد طلبًا ومحبة وعظمًا وعزة ومقارنة النية مع التكبير إشارة إلى أن صدق النية في الطلب ينبغي أن يكون مقرونًا بتكبير الحق وتعظيمه في الطلب عن غيره فلا تطلب منه إلا هو فإن من طلب غيره فقد كبر وعظم ذلك المطلوب لا الله تعالى فلا تجوز صلاته حقيقة كما لا تجوز صلاته صورة إلا بتكبير الله فإن قال الدنيا أكبر والعقبى أكبر لا يجوز حتى يقول الله أكبر فكذلك في الحقيقة وفي وضع اليمنى على اليسرى ووضعهما على الصدر إشارة إلى إقامة رسم العبودية بين يدي مالكه وحفظ القلب عن محبة ما سواه وفي افتتاح القراءة بوجهت إشارة إلى توجهه للحق خالصًا عن شرك طلبه غير الحق وفي وجوب الفاتحة وقراءتها وعدم جواز الصلاة بدونها إشارة إلى حقيقة تعرض العبد في الطلب لنفحات ألطاف الربوبية بالحمد والثناء والشكر لرب العالمين وطلب الهداية وهي الجذبات الإلهية التي توازي كل جذبة منها عمل الثقلين وتقرب العبد بنصف الصلاة المقسومة بين العبد والرب نصفين والقيام والركوع والسجود إشارة إلى رجوعه إلى عالم الأرواح ومسكن الغيب كما جاء منه فأول تعلقه بهذا العالم كان بالنباتية ثم بالحيوانية ثم بالإنسانية فالقيام من خصائص الإنسان والركوع من خصائص الحيوان والسجود من خصائص النبات كما قال تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] فللعبد في كل مرتبة من هذه المراتب ربح وخسران والحكمة في تعلق الروح العلوى النوراني بالجسد السفلي الظلماني كان هذا الربح لقوله تعالى على لسان نبيه عليه السلام: «خلقت الخلق ليربحوا علي لا لأربح عليهم» ليربح الروح في كل مرتبة من مراتب السفليات فائدة لم توجد في مراتب العلويات وإن كان قد ابتلى أولًا ببلاء الخسران كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الانسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ ءَامَنُوا} [العصر: 1- 3] الآية فبنور الإيمان والعمل الصالح يتخلص العبد من بلاء خسران المراتب السفلية ويفوز بربحها فبالقيام في الصلاة بالتذلل وتواضع العبودية يتخلص من خسران التكبر والتجبر الذي من خاصته أن يتكامل في الإنسان ويظهر منه {أَنَا رَبُّكُمُ الاعْلَى} [النازعات: 24] ويفوز بربح علو الهمة الإنسانية التي إذا كملت في الإنسان لا يلتفت إلى الكون في طلب المكون كما كان حال النبي عليه السلام {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 16- 18] فإذا تخلص من التكبر الإنساني يرجع من القيام الإنساني إلى الركوع الحيواني بالانكسار والخضوع فبالركوع يتخلص من خسران الصفة الحيوانية ويفوز بربح تحمل الأذى والحلم ثم يرجع من الركوع الحيواني إلى السجود النباتي فبالسجود يتخلص من خسران الذلة النباتية والدناءة السفلية ويفوز بربح الخشوع الذي يتضمن الفلاح الأبدي والفوز العظيم السرمدي كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ في صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] فالخشوع أكمل آلات العروج في العبودية وقد حصل في تعلقه بالجسد النيراني وليس لأحد من العالمين هذا الخشوع وبهذا السر أبت الملائكة وغيرهم أن يحملن الأمانة فأشفقن منها لأن الاباء ضد الخشوع وحملها الإنسان باستعداد الخشوع وكمل خشوعه بالسجود إذ هو غاية التذلل في صورة الإنسان وهيئة الصلاة ونهاية قطع تعلق الروح من العالم السفلي وعروجه إلى العالم الروحاني العلوي برجوعه من مراتب الإنسانية والحيوانية والنباتية وكمال التعرض لنفحات ألطاف الحق وبذل المجهود وإنفاق الموجود من أنانية الوجود الذي هو من شرط المصلين كقوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ} {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} الرزق في اللغة العطاء.
وفي العرف ما ينتفع به الحيوان وهو تناول الحلال والحرام عند أهل السنة والقرينة تخصصه هاهنا بالحلال لأن المقام مقام المدح وتقديم المفعول للاهتمام به والمحافظة على رؤوس الآي وإدخال من التبعيضية عليه للكف عن الإسراف المنهي عنه وصيغة الجمع في رزقنا مع أنه تعالى واحد لا شريك له لأنه خطاب الملوك والله تعالى مالك الملك وملك الملوك والمعهود من كلام الملوك أربعة أوجه: الإخبار على لفظ الواحد نحو فعلت كذا وعلى لفظ الجمع فعلنا كذا وعلى ما لم يسم فاعله رسم لكم كذا وإضافة الفعل إلى اسمه على وجه المغايبة أمركم سلطانكم بكذا والقرآن نزل بلغة العرب فجمع الله فيه هذه الوجوه كلها فيما أخبر به عن نفسه فقال تعالى: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] على صيغة الواحد وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] على صيغة الجمع وقال فيما لم يسم فاعله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وأمثاله وقال في المغايبة: {اللَّهُ الذي خَلَقَكُمْ} [الروم: 54] وأمثاله كذا في التيسير.
ويقول الفقير جامع هذه اللطائف: سمعت من شيخي العلامة أبقاه الله بالسلامة إن الإفراد بالنظر إلى الذات والجمع بالنظر إلى الأسماء والصفات ولا ينافي كثرة الأسماء والصفات وحدة الذات إذ كل منها راجع إليها والإنفاق والإنفاد أخوان خلا أن في الثاني معنى الإذهاب بالكلية دون الأول والمراد بهذا الإنفاق الصرف إلى سبيل الخير فرضًا كان أو نفلًا ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه أو خصصه بها لاقترانه بما هي شقيقتها وأختها وهي الصلاة وقد جوز أن يراد به الإنفاق من جميع المعادن التي منحهم الله إياها من النعم الظاهرة والباطنة ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: «إن علمًا لا ينال به ككنز لا ينفق منه» وإليه ذهب من قال في تفسير الآية ومما خصصناهم من أنوار المعرفة يفيضون والأظهر أن يقال المراد من النفقة هي الزكاة وزكاة كل شيء من جنسه كما روي عن أنس بن مالك زكاة الدار أن يتخذ فيها بيت للضيافة كما في الرسالة القشيرية.
قالوا: إنفاق أهل الشريعة من حيث الأموال وإنفاق أرباب الحقيقة من حيث الأحوال وإنفاق الأغنياء من أموالهم لا يدخرونها عن أهل الحاجة وإنفاق العابدين من نفوسهم لا يدخرونها عن وظائف الخدمة وإنفاق العارفين من قلوبهم لا يدخرونها عن حقائق المراقبة وإنفاق المحبين من أرواحهم لا يدخرونها عن مجاري الأقضية.
والأقصر أن يقال إنفاق الأغنياء إخراج المال من الجيب وإنفاق الفقراء إخراج الأغيار من القلب ثم ذكر في الآية الإيمان وهو بالقلب ثم الصلاة وهي بالبدن ثم الإنفاق وهو بالمال وهو مجموع كل العبادات ففي الإيمان النجاة وفي الصلاة المناجاة وفي الإنفاق الدرجات وفي الإيمان البشارة وفي الصلاة الكفارة وفي الإنفاق الطهارة وفي الإيمان العزة وفي الصلاة القربة وفي الإنفاق الزيادة.
وقيل: ذكر في هذه الآية أربعة أشياء: التقوى، والإيمان، والغيب، وإقامة الصلاة والإنفاق وهي صفة الخلفاء الراشدين الأربعة ففي الآية بيان فضلهم التقوى لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 5- 6] والإيمان بالغيب لعمر الفاروق رضي الله عنه قال الله تعالى: {حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] وإقامة الصلاة لعثمان ذي النورين رضي الله تعالى عنه قال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائمًا} [الزمر: 9] الآية والإنفاق لعلي المرتضى رضي الله تعالى عنه قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة: 274] الآية، وعند القوم أي: الصوفية السخاء هو الرتبة الأولى ثم الجود بعده ثم الإيثار فمن أعطى البعث وأبقى البعث فهو صاحب سخاء ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه شيئًا فهو صاحب جود والذي قاسى الضرورة وآثر غيره بالبلغة فهو صاحب إيثار وبالجملة في الإنفاق فضائل كثيرة.
وفي التأويلات النجمية: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} أي: من أوصاف الوجود يبذلون بحق النصف المقسوم من الصلاة بين العبد والرب فإذا بلغ السيل زباه والتعرض منتهاه أدركته العناية الأزلية بنفحات ألطافه وهداه إلى درجات قرباته فكما كان جذبة الحق للنبي عليه السلام في صورة خطاب ادن فجذبة الحق للمؤمن تكون في صورة خطاب {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} [العلق: 19] ففي التشهد بعد السجود إشارة إلى الخلاص من حجب الأنانية والوصل إلى سهود جمال الحق بجذبات الربانية ثم بالتحيات يراقب رسول العباد في الرجوع إلى حضرة الملوك بمراسم تحفة الثناء والتحنن إلى اللقاء وفي التسليم عن اليمين وعن الشمال إشارة إلى السلام على الدارين وعلى كل داع جاهل يدعوه عن اليمين إلى نعيم الجنات أو عن الشمال إلى اللذات والشهوات وهو في مقامات الإجابات والمناجاة ودرجات القربات مستغرق في بحر الكرامات مقيد بقيد الجذبات. اهـ. بتصرف يسير.
من فوائد السعدي في الآية:
قال رحمه الله:
وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة، والأعمال الظاهرة، لتضمن التقوى لذلك فقال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر. إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن به، لخبر الله وخبر رسوله. فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر، لأنه تصديق مجرد لله ورسله. فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله، سواء شاهده، أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله، أو لم يهتد إليه عقله وفهمه. بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية، لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم، ومرجت أحلامهم. وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله.
ويدخل في الإيمان بالغيب، الإيمان ببجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة، وأحوال الآخرة، وحقائق أوصاف الله وكيفيتها، وما أخبرت به الرسل من ذلك فيؤمنون بصفات الله ووجودها، ويتيقنونها، وإن لم يفهموا كيفيتها.
ثم قال: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} لم يقل: يفعلون الصلاة، أو يأتون بالصلاة، لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة. فإقامة الصلاة، إقامتها ظاهرا، بإتمام أركانها، وواجباتها، وشروطها. وإقامتها باطنا بإقامة روحها، وهو حضور القلب فيها، وتدبر ما يقوله ويفعله منها، فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وهي التي يترتب عليها الثواب. فلا ثواب للإنسان من صلاته، إلا ما عقل منها، ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها.
ثم قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة، والنفقة على الزوجات والأقارب، والمماليك ونحو ذلك. والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير. ولم يذكر المنفق عليهم، لكثرة أسبابه وتنوع أهله، ولأن النفقة من حيث هي، قربة إلى الله، وأتى بمن الدالة على التبعيض، لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءا يسيرا من أموالهم، غير ضار لهم ولا مثقل، بل ينتفعون هم بإنفاقه، وينتفع به إخوانهم.
وفي قوله: {رَزَقْنَاهُمْ} إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم، ليست حاصلة بقوتكم وملككم، وإنما هي رزق الله الذي خولكم، وأنعم به عليكم، فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده، فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم، وواسوا إخوانكم المعدمين.
وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن، لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود، وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه، فلا إخلاص ولا إحسان. اهـ.